الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
وهو من شواهد سيبويه: المتقارب ضعيف النكاية أعداءه *** يخال الفرار يراخي الأجل على أن سيبويه والخليل جوزا إعمال المصدر المعرف باللام مطلقاً كما في البيت. قال سيبويه: وتقول: عجبت من الضرب زيداً، كما تقول: عجبت من الضارب زيداً، يكون الألف واللام بمنزلة التنوين، قال الشاعر: ضعيف النكاية أعداءه ***...........البيت وقال المرار: لقد علمت أولى المغيرة ***..........البيت وقال الأعلم: الشاهد فيه نصب الأعداء بالنكاية لمنع الألف واللام الإضافة ومعاقبتهما للتنوين الموجب للنصب. ومن النحويين من ينكر عمل المصدر وفيه الألف واللام، لخروجه عن شبه الفعل، فينصب ما بعده بإضمار مصدر منكور فيقدره: ضعيف النكاية نكاية أعداءه. وهذا يلزمه مع تنوين المصدر، لأن الفعل لا ينون، فقد خرج المصدر عن شبه الفعل بالتنوين، فينبغي على مذهبه أن لا يعمل. يقول: هو ضعيف عن أن ينكي عدوه وجبانٌ أن يثبت، ولكنه يلتجي إلى الفرار ويخاله مؤخراً لأجله. وأراد ببعض النحويين أبا العباس المبرد. وجعل السيرافي نصب أعداءه على حذف الخافض، أي: ضعيف الكناية في أعدائه. وقوله: يخال بمعنى يظن. ويراخي: يباعد، وفاعله ضمير الفرار، وفاعل يخال ضمير المهجو. وجملة: يراخي في موضع المفعول الثاني ليخال. وضعيف: خبر مبتدأ محذوف، أي: هو ضعيف. والنكاية: مصدر نكيت في العدو، إذا أثرت فيه. وجاء معدى بنفسه. قال أبو النجم: الرجز ينكى العدى ويكرم الأضيافا وقال عدي بن زيد: الطويل إذا أنت لم تنفع بودك أهله *** ولم تنك بالبؤسى عدوك فابعد من بعد، من باب فرح، إذا هلك. والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها. والله أعلم. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: الطويل لقد علمت أولى المغيرة أنني *** كررت فلم أنكل عن الضرب مسمعا لما تقدم قبله. ويروى: لحقت فلم أنكل. قال الأعلم: الشاهد في نصب مسمع بالضرب على نحو ما تقدم. ويجوز أن يكون بلحقت، والأول أولى، لقرب الجوار، ولذلك اقتصر عليه سيبويه. يقول: قد علم أولى من لقيت من المغيرين أني صرفتهم عن وجههم هازماً لهم، ولحقت سيدهم مسمعاً، فلم أنكل عن ضربه بسيفي. والنكول: الرجوع عن القرن جبناً. وقال ابن خلف: وكان بعض البصريين المتأخرين لا ينصب بالمصدر إذا كان فيه الألف واللام، وينصب مسمعاً بلحقت لا بالضرب وحجته أن أل تبعد المصدر عن شبه الفعل. قال أبو الحجاج: ومن أعمل الضرب فيه فهو عندي على قول من أعمل الثاني، وهو أحسن عند أصحابنا. ألا ترى أن المعنى لحقت مسمعاً فلم أنكل عن ضربه فحذف المفعول من الأول لدلالة الثاني عليه. ومن أعمل لحقت أراد: لحقت مسمعاً فلم أنكل عن الضرب إياه، وعن ضربيه، إلا أنه حذف لأن المصادر يحذف معها الفاعل والمفعول. ولا يجوز على هذا القياس ضربت وشتمت زيداً، حتى تأتي بعلامة الضمير في شتمت. يعني إذا أعملت ضربت. قال: لأن الفعل لا يحذف معه هذا المفعول كما يحذف مع المصدر. وقد أجاز السيرافي حذف الضمير في هذا النحو مع الفعل أيضاً، لأن المفعول كالفضلة المستغنى عنها. قال أبو علي: ومن أنشد كررت كان مسمع مفعول الضرب لا غير، لأن كررت يتعدى بالحرف وهو على، ولا حرف ها هنا. فإن جعلت على مرادةً كما جاء في قوله: لأقعدن لهم صراطك المستقيم ، وقول الشاعر: الطويل تحن فتبدي ما بها من صبابةٍ *** وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني فلما حذف أوصلت الفعل فهو وجه. قال أبو الحجاج: وهذا خلاف لما في الإيضاح لأنه قال هنالك: إن ذلك لا يعمل عليه ما وجد مندوحة عنه. وليس ينكر على العالم أن يرجع عن قول إلى ما هو خيرٌ منه. قال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح: وأجاز السيرافي هذا الذي منعه أبو علي، وكذلك أجاز أبو علي في غير الإيضاح نصب مسمع. بكررت على إسقاط حرف الجر كالآية. ولو عمل كررت لكان التقدير: كررت فلم أنكل عن الضرب إياه، على مسمع، فحذف على، وأوصل الفعل. وقال ابن السيرافي: لا يحسن أن ينصب بكررت على تقدير كررت على مسمع فلم أنكل عن الضرب. وعلى الرواية الثانية ينتصب أيضاً بالضرب، إلا أنه على إعمال الثاني الأقرب إليه. ولو أعمل الأول لأضمر، وكان التقدير: لحقت مسمعاً فلم أنكل عن الضرب إياه مسمعاً. وقد أورده ابن قاسم المرادي في باب التنازع من شرح الألفية بلفظ لقيت ولم أنكل عن الضرب مسمعا، شاهداً على التنازع في مسمع. وأورده ابن الناظم وابن هشام في شرح الألفية في باب إعمال المصدر، كالشارح المحقق. والبيت من قصيدة لمالك بن زغبة الباهلي، وبعده: ولو أن رمحي لم يخني انكساره *** لغادرت طيراً تعتفيه وأضبعا وفر ابن كدراء السدوسي بعدم *** تناول مني في المكرة منزعا وما كنت إلا السيف لاقى ضريبةً *** فقطعها ثم انثنى فتقطعا وإني لأعدي الخيل تعثر بالقن *** حفاظاً على المولى الحريد ليمنعا ونحن جنبنا الخيل من سرو حميرٍ *** إلى أن وطئنا أرض خثعم نزعا أجئتم لكيما تستبيحوا حريمن *** فصادفتم ضرباً وطعناً مجدعا فأبتم خزايا صاغرين أذلةً *** شريجة أرماح لأكتافكم معا قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب: مسمع بن شيبان: أحد بني قيس بن ثعلبة، كان خرج هو وابن كدراء الذهلي يطلبان بدماء من قتلته باهلة، من بني بكر بن وائل، يوم قتل أبو الأعشى قيس بن جندل، فبلغ ذلك باهلة، فلقوهم، فقاتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت بنو قيس، ومن كان معهما من بني ذهل، وضرب مسمعٌ وأفلت جريحاً. وقوله: لقد علمت أولى المغيرة إلخ، يعني أولها. والمغيرة: الخيل، يريد مقدمة العسكر. نقل أبو حيان في تذكرته عن ابن خالويه أنه قال: سألت أبا عمر عن قوله: لقد علمت أولى المغيرة.......البيت فقال: أولى كل شيء: أوله. وقال ابن السيرافي: المغيرة يجوز أن تكون وصفاً للخيل المحذوفة، وهو أجود لأن استعمالها معه أكثر. ويجوز أن يكون وصفاً للجماعة المغيرة ونحوها. وعلى أي الحالين، فهو اسم فاعل، من أغار على العدو إغارة. وذكر ابن السيد في شرح أبيات الجمل: أنه يقال: المغيرة بضم الميم وكسرها. وتبعه ابن خلف، وتعقبه اللخمي بأنه يقال في اسم الرجل المغيرة، بكسر الميم، لأنهم إنما يغيرون الأسماء الأعلام، ولا يكادون يغيرون الصفات الجارية على الأفعال، لئلا يخرجوها عن الباب. والنكول: الرجوع جبناً. قال ابن خلف: من ضم الكاف في المضارع فتحها في الماضي، ومن كسرها في الأول فتحها في الثاني. ومسمع بكسر الميم الأولى وفتح الثانية. وقوله: لغادرت طيراً إلخ. غادرت: تركت. وفلان تعتفيه الأضياف، أي: تأتيه. وأضبع: جمع ضبع. يريد أنه لو لم يخنه رمحه، لقتله. وكانت تأتيه الطيور والسباع تأكله. وسدوس، بالفتح: أبو قبيلة. والمكرة بالفتح: موضع الحرب. والمنزع، بكسر الميم وسكون النون وفتح الزاي: السهم. وقوله: أجئتم لكيما الهمزة للاستفهام التوبيخي. والاستباحة: النهب والأسر. والمجدع، بكسر الدال المشددة: مبالغة جادع، من جدع أنفه وأذنه وشفته، من باب نفع، إذا قطعها. وقوله: فأبتم خزايا إلخ. أي: رجعتم، من الأوب، وهو الرجوع. وخزايا: جمع خزيان، وصف من خزي خزياً، من باب علم، أي: ذل وهان. وأخزاه الله: أذله وأهانه. وصاغرين، من صغر صغراً، من باب تعب، إذا ذل وهان. ومالك بن زغبة، بضم الزاي وسكون الغين المعجمتين بعدها موحدةٌ، شاعرٌ جاهلي. وأنشد بعده: طلب المعقب حقه المظلوم على أن المظلوم ارتفع بقوله: حقه، أي: غلبه المظلوم بالحق. وهذا غير ما وجهه به في باب المنادى، فإنه قال هناك: إن فاعل المصدر، وإن كان مجروراً بإضافة المصدر إليه محله الرفع، فالمعقب فاعل المصدر، وهو طلب، وقد جر بإضافته إليه، ومحله الرفع بدليل رفع وصفه، وهو المظلوم. وهذا التخريج هو المشهور. والمعقب: اسم فاعل من التعقيب، وهو الذي يطلب حقه مرةً بعد مرة. يقال: عقب في الأمر تعقيباً، إذا تردد في طلبه مجداً. وطلب بالرفع فاعل لهاجه في المصراع قبله، وهو: حتى تهجو في الرواح وهاجه أي: حتى سار الحمار في الهاجرة، وحثه على المسير طلبٌ، كطلب المعقب المظلوم حقه، فحقه مفعول المصدر. وما ذكره الشارح هنا هو تخريج ابن جني في المحتسب، إلا أنه فسر حقه المظلوم بغير هذا، قال: أي عازه ومنعه المظلوم. فحقه على هذا فعلٌ، حقه يحقه، أي: لواه حقه. انتهى. ولم أر في كتب اللغة حقه يحقه بهذا المعنى. ونقل ابن المستوفي عن الخوارزمي أنه قال: إن رفعت طلب فحقه حينئذ فعل، يقال: حقه يحقه: لواه حقه وصده. والمظلوم نعت المعقب وفاعل حقه مضمرٌ. هذا كلامه. والذي ذكره الأندلسي أن حاقه بمعنى خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق، فإذا غلبه قيل حقه. انتهى ما أورده ابن المستوفي. فظهر من هذا أن مأخذ الشارح المحقق كلام الأندلسي. وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً على هذا البيت مع جملة أبيات من القصيدة، وهي للبيدٍ الصحابي، مع ترجمته في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة. وأنشد بعده: الوافر أكفرا بعد رد الموت عني *** وبعد عطائك المائة الرتاعا على أن العطاء هنا بمعنى الإعطاء، ولهذا عمل عمله. والمفعول الثاني محذوف، أي: بعد إعطائك المائة الرتاع إياي. وردّ: مصدر مضاف إلى المفعول، وفاعله محذوف، أي: بعد ردك الموت عني. وأورده شراح الألفية على أن العطاء اسم مصدر. والبيت من قصيدة للقطامي، تقدم شرح أبيات من أولها مع ترجمته في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة. وهذه أبيات منها: ومن يكن استلام إلى ثوي *** فقد أكرمت يا زفر المتاعا أكفرا بعد رد الموت عني ***........البيت فلو بيدي سواك غداة زلت *** بي القدمان لم أرج اطلاعا إذا لهلكت لو كانت صغار *** من الأخلاق تبتدع ابتداعا فلم أر منعمين أقل من *** وأكرم عندنا اصطنعوا اصطناعا من البيض الوجوه بني نفيل *** أبت أخلاقهم إلا اتساعا وهي قصيدة طويلة مدح بها زفر بن الحارث الكلابي، وحض قيسا وتغلب على الصلح. قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء: كان القطامي أسره زفر في الحرب التي كانت بين قيس وتغلب، فأرادت بين قيس قتله، فحال زفر بينهم وبينه، ومن عليه، وأعطاه مائة من العطاه مائة من الإبل وأطلقه، فقال: أكفرا بعد رد الموت عني إلى آخر الأبيات التي أوردناها. قوله: ومن يكن استلام إلخ. قال شارح ديوانه: أي من أتى إلى ضيفه ما يلام عليه فأنت أتيت إلى ضيفك أمرا تستوجب فيه الثناء والمدح، والذكر الحسن. والثوي: الضيف، وهو فعيل من الثواء، قال: وهو الإقامة. والمتاع: والزاد. ومتعته: زودته. أخبر أنه زوده وأعطاه. وقوله: أكفرا بعد رد الموت إلخ، الهمزة للاستفهام الإنكاري، وكفرا: مفعول مطلق عامله محذوف، أي: أأكفرا كفرا. والرتاع: جمع راتعة. قال شارح ديوانه: الرتاع: الراعية. يقول: أخونك بعد هذا وقد مننت علي وأطلقتني؟ ويقال: كان زفر اشتراه من قيس بن وهب، ووهب له مائة من الإبل. وقوله: فلو بيدي إلخ، الباء متعلقة بمحذوف، كما أشار إليه شارح ديوانه بقوله: يقول له كنت في يدي غيرك، لم أرج اطلاعاً، أي: نجاة، وارتفاعاً من صرعتي، ولم أرجع إلى أهلي. وقوله: إذن لهلكت إلخ. قال شارح ديوانه: تبتدع: تستحدث، يقال: شيءٌ بدع وبديع، إذا كان بديعاً، قال: لو ابتدعت صغار لهلكت أنا. انتهى. وصغار بالرفع، وتبتدع بالبناء للمفعول. قال العيني: معناه لو ابتدعت في أموراً صعاباً لهلكت. هذا كلامه. وقوله: فلم أر منعمين إلخ. قال شارح ديوانه: يقول: لم أر مثلهم لا يمنون بما صنعوا. يريد الذين أنعموا عليه. وقوله: من البيض الوجوه. قال شارح ديوانه: نفيل بن عمرو بن كلاب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة، رهط زفر. وأنشد بعده: الرجز دارٌ لسعدى إذه من هواكا على أن المصدر يجوز استعماله بمعنى اسم المفعول كما هنا، فإن هوى مصدر هويته من باب تعب، إذا أحببته وعلقت به. والمراد به هنا اسم المفعول، أي: من مهويك. وبهذا الوجه أورده سابقاً في باب المفعول المطلق في الشاهد الثالث والثمانين. وتقدم الكلام عليه هناك مفصلاً. وقوله: إذه أصله إذ هي فحذفت الياء ضرورة، وبقيت الهاء من هي. وبهذا الوجه أورده أيضاً في باب الضمير بعد الشاهد الثمانين بعد الثلثمائة، وتقدم الكلام عليه أيضاً مستوفًى هناك. أنشد فيه: ليبك يزيد ضارعٌ لخصومةٍ على أن قوله: ضارع فاعل لفعل محذوف، أي: يبكيه ضارع. وهذا على رواية ليبك بالبناء للمفعول، ويزيد نائب الفاعل. وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً مشروحاً في الشاهد الخامس والأربعين من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: البسيط فبت والهم تغشاني طوارقه *** من خوف رحلة بين الظاعنين غدا على أن غدا يحتمل أن يكون منصوباً بأحد عوامل ثلاثة، وهي رحلة، وبين والظاعنين، فلا يتم ما ادعاه المبرد من جواز عمل اسم الفاعل الماضي. مع أن الكلام في اسم الفاعل الذي ينصب مفعولاً به لا ظرفاً. وأورد أبو علي في إيضاح الشعر هذا البيت، وقال: فيه حذف، والتقدير من خوف الارتحال وخوف الفراق. ونسب البيت لجرير. وقوله: فبت والهم إلخ. بات هنا تامة، قال ابن الأثير في النهاية: كل من أدركه الليل، فقد بات يبيت، نام ولم ينم. والواو هي واو الحال، والهم: مبتدأ، وجملة تغشاني طوارقه: خبره، والجملة في محل نصب حال من التاء في بت. قال ابن الأثير: غشيه يغشاه غشياناً، إذا جاءه. وغشاه تغشيةً، إذا غطاه. وغشي الشيء، إذا لابسه. والطوارق هنا: الدواهي. قال ابن الأثير: كل آت بالليل طارق. وقيل أصل الطروق من الطرق، وهو الدق. وسمي الآتي بالليل طارقاً لحاجته إلى دق الباب. وجمع الطارقة طوارق. ومنه الحديث: أعوذ بالله من طوارق الليل إلا طارقاً يطرق بخير . ومن: متعلقة بقوله: تغشاني، ورحلة مضاف إلى بين، وكذلك بين مضاف إلى ما بعده: فهما مجروران بالكسرة. والرحلة بالكسر: اسم مصدر بمعنى الارتحال. والبين هنا مصدر بان يبين بيناً، أي: فارق وبعد. والظاعنين من ظعن يظعن بفتح عينهما ظعناً، بفتح العين وسكونها، أي: سار وذهب. وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: الطويل فيالرزام رشحوا بي مقدم *** على الحرب خواضاً إليها الكرائبا على أن خواضاً صيغة مبالغة، حول من اسم الفاعل الثلاثي، وهو خائض. قال ابن جني في إعراب الحماسة: في هذا البيت شاهدٌ على جواز إعمال اسم الفاعل. ألا تراه كيف نصب الكرائب بخواض. وهو من أبياتٍ تسعة لسعد بن ناشبٍ المازني، أوردها أبو تمام في أوائل الحماسة، وهي: سأغسل عني العار بالسيف جالب *** علي قضاء الله ما كان جالبا وأذهل عن داري وأجعل هدمه *** لعرضي من باقي المذمة حاجبا ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت *** يميني بإدراك الذي كنت طالبا فإن تهدموا بالغدر داري فإنه *** تراث كريمٍ لا يبالي العواقبا أخو غمراتٍ لا يريد على الذي *** يهم به من مفظع الأمر صاحبا إذا هم لم تردع عزيمة همه *** ولم يأت ما يأتي من الأمر هائبا فيالرزام رشحوا بي مقدم *** إلى الموت خواضاً إليها الكرائبا إذا هم ألقى بين عينيه عزمه *** ونكب عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر في أمره غير نفسه *** ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا قال شراح الحماسة: سبب هذه الأبيات أنه كان أصاب دماً، فهدم بلال بن أبي بردة داره بالبصرة وحرقها. وقيل: إن الحجاج هو الذي هدم داره. وقال ابن هشام في شرح الشواهد: ويقال إنه قتل له حميم، وإنه أوعده بهدم داره إن طالب بثأره. وقوله: سأغسل عني العار إلخ. قال التبريزي: أصل القضاء الحتم، ثم يتوسع فيه، فيقال: قضي قضاؤك، أي: فرغ من أمرك. فاستعمل في معنى الفراغ من الشيء. ويروى: قضاء الله بالرفع والنصب. فإذا رفعته يكون فاعلاً لجالباً علي، وما كان جالباً في موضع المفعول، ويكون القضاء بمعنى الحكم. والتقدير: سأغسل العار عن نفسي باستعمال السيف في الأعداء، في حال جلب حكم الله علي الشيء الذي يجلبه. وإذا نصبت القضاء فإنه يكون مفعولاً لجالباً وفاعله ما كان جالباً. ويكون القضاء الموت المحتوم، كما يقال للمصيد الصيد وللمخلوق الخلق. والمعنى: جالباً الموت علي جالبه. وقيل: إن كان في قوله: ما كان في معنى صار. انتهى. وقال ابن جني: أراد جالبه، أي: جالباً إياه، فحذف الضمير مع اسم الفاعل كما يحذف مع الفعل نفسه. ومثله ما أراناه أبو علي من قول الله تعالى: {فاقض ما أنت قاضٍ}، أي: قاضيه، في معنى قاضٍ إياه. وعليه البيت الآخر فيه، وهو: بإدراك الذي كنت طالبا أي: إياه، وطالبه وطالباً له. وأن يكون المحذوف ضميراً متصلاً أولى من أن يكون ضميراً منفصلاً. وقوله: وأذهل عن داري إلخ. الذهول: ترك الشيء متناسياً له. يقول: إذا نبا المنزل بي حتى يصير دار الهوان انتقلت عنه، وأجعل خرابه وقايةً لنفسي من العار الباقي. وهذا قريبٌ من قوله: الكامل وإذا نبا بك منزلٌ فتحول وقوله: ويصغر في عيني إلخ. أراد بقوله: يصغر صغر القدر. وخص التلاد، وهو المال القديم، لأن النفس به أضن. ونبه بهذا الكلام على أنه كما يخف على قلبه ترك الدار والوطن، خوفاً من التزام العار الباقي، كذلك يقل في عينه إنفاق المال عند إدراك المطلوب. وانثنت: انعطفت ومالت. وهذا البيت أورده ابن الناظم في شرح الألفية شاهداً على جواز حذف العائد المجرور بالإضافة، إن كان المضاف وصفاً بمعنى الحال، والاستقبال، فإن الأصل كنت طالبه فحذف الضمير. وقوله: فإن تهدموا بالغدر إلخ. الغدر: ترك الوفاء. يقول: إن تخربوا داري بالغدر منكم فإنها تراث كريم. يعني نفسه. وسمى ملكه ميراثاً، وهو حيٌّ باعتبار ما يؤول إليه. والكرم: التنزه عن الأقذار. وقوله: أخو غمرات إلخ، بفتحتين، هي الشدائد. ويروى: أخو عزمات. والعزم: عقد القلب على ما يرى فعله. ومفظع، من أفظع الأمر إفظاعاً. وكذلك فظع فظاعةً، أي: عظم. ومن أفظعني الأمر ففظعت به، أي: أعياني فضقت به ذرعاً. يصف نفسه بأنه صاحب همم وأخو عزمات، مستبدٌّ برأيه فيها، غير متخذ رفيقاً. وقوله: فيالرزام رشحوا إلخ. هو فعل أمر من الترشيح، وهو التربية. ومنه رشحت المرأة ولدها، إذا درجته في اللبن، ثم قيل: رشح فلان لكذا توسعاً. أي: رشحوا به بترشيحكم إياي رجلاً، كذا صفته. وأقام الصفة مقام الموصوف. قال التبريزي: قوله: فيالرزام، النية بالفاء استئناف ما بعدها وإن نسق بها جملةً على جملة. واللام من يالرزام لام الاستغاثة، ورزام مجرور بها، وهو قبيلة، وهم المدعوون وأصل حركة اللام مع الظاهر الكسر، وفتحت مع المستغاث لكونه في موقع الضمير، ومقدماً بكسر الدال بمعنى متقدماً، كما يقال وجه وتوجه، ونبه بمعنى تنبه. ونكب بمعنى تنكب. والكرائب: جمع كريبة، وهي الشدة من شدائد الدهر. والأصل في الكرب الغم الذي يأخذ بالنفس. ويروى بدل: الكتائبا جمع كتيبة، وهي الجيش. وقوله: إذا هم ألقى إلخ، أي: جعله بمرأى منه لا يغفل عنه. وقد طابق فيه لما قابله بقوله: ونكب عن ذكر العواقب جانبا. وسمى المعزوم عليه عزماً. ونكب إن كان بمعنى حرف فجانباً مفعول به له، وإن كان بمعنى انحرف، فجانباً ظرف له. قال ابن جني: لك في جانباً وجهان: أحدهما: أن يكون مفعولاً به، أي: نكب جانباً منه عن ذكر العواقب. والآخر: أن يكون ظرفاً، أي: نكب عن ذكر العواقب في جانب. ويؤكد هذا رواية من رواه: وأعرض عن ذكر العواقب وقوله: ولم يستشر إلخ، نبه على الرأي به، وعلى الفعل بقوله: ولم يرض. وقائم السيف: مقبضه. وانتصب لأنه مستثنًى مقدم. وقال ابن جني: إن شئت نصبت صاحباً على أنه مفعول به ونصبت قائم السيف على الاستثناء، أي: لم يرض صاحباً إلا قائم السيف. وإن شئت نصبت قائم السيف نصب المفعول به، وجعلت صاحباً بدلاً منه، كقولك: لم أضرب إلا زيداً قائماً، أي: لم أضرب أحداً إلا زيداً في حال قيامه. ومن نصب زيداً في قولك: ما رأيت أحداً إلا زيداً على البدل لم ينصب قائم السيف في القول الأول إلا على الاستثناء المقدم دون البدل، وذلك لتقدمه على صاحبه، والبدل لا يجوز تقدمه على المبدل منه. انتهى. وزاد ابن هشام في شرح الشواهد بيتين بعد هذه الأبيات وهما: فلا توعدني بالأمير فإن لي *** جناناً لأكناف المخاوف راكبا وقلباً أبياً لا يروع جأشه *** إذا الشر أبدى بالنهار كواكبا وسعد بن ناشب شاعرٌ إسلاميٌّ في الدولة المروانية. قال شراح الحماسة: هو من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم. وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء: هو من بني العنبر، وكان أبوه ناشب أعور، وكان من شياطين العرب. وله يوم الوقيط وكان في الإسلام بين تميم وبكر. وكان سعد من مردة العرب. وفيه يقول الشاعر: الطويل وكيف يفيق الدهر سعد بن ناشبٍ *** وشيطانه عند الأهلة يصرع وسعد بفتح السين وسكون العين، وناشب بكسر الشين المعجمة. وأنشد بعده: وهو من شواهد سيبويه: الطويل ضروبٌ بنصل السيف سوق سمانه *** إذا عدموا زاداً فإنك عاقر على أن ضروباً صيغة مبالغة اسم الفاعل، محول عن ضارب، ولهذا عمل عمله. وسوق نصب به على المفعولية. ولهذا أورده سيبويه. والبيت من أبيات لأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، رثى بها أبا أمية ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان أبو أمية زوج أخته عاتكة بنت عبد المطلب، فخرج تاجراً إلى الشام فمات بموضع يقال له: سرو سحيم، فقال أبو طالب هذه الأبيات يرثيه: ألا إن زاد الركب غير مدافعٍ *** بسرو سحيمٍ غيبته المقابر بسرو سحيم عارفٌ ومناكرٌ *** وفارس غارات خطيبٌ وياسر تنادوا بأن لا سيد الحي فيهم *** وقد فجع الحيان كعبٌ وعامر فكان ذا يأتي من الشام قافل *** بمقدمه تسعى إلينا البشائر فيصبح أهل الله بيضاً كأنم *** كستهم حبيراً ريدةٌ ومعافر ترى داره لا يبرح الدهر عنده *** مجعجعةٌ كومٌ سمانٌ وباقر إذا أكلت يوماً أتى الدهر مثله *** زواهق زهمٌ ومخاضٌ بهازر ضروبٌ بنصل السيف سوق سماته ***................البيت وإلا يكن لحمٌ غريضٌ فإنه *** تكب على أفواههن الغرائر فيا لك من ناعٍ حبيت بألةٍ *** شراعية تصفر منها الأظافر قوله: ألا إن زاد الركب قال ابن بكار في أنساب قريش: كان أزواد الركب من قريش ثلاثة: الأول: مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس. الثاني: زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى. الثالث: أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وإنما قيل لهم أزواد الركب أنهم كانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحدٌ. ولم يسم بذلك غير هؤلاء الثلاثة. وكان عند أبي أمية بن المغيرة أربع عواتك: عاتكة بنت عبد المطلب، وهي أم زهير وعبد الله، وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً . وعاتكة بنت جذل الطعان، وهي أم أم سلمة والمهاجر. وعاتكة بنت عتبة بن ربيعة. وعاتكة بنت قيس، من بني نهشل بن دارم التميمية. انتهى. وقوله: غير مدافعٍ بالنصب. وجملة: غيبته المقابر خبر إن. والباء من قوله: بسرو سحيم متعلق به. وسحيم بضم السين وفتح الحاء المهملتين: موضعٌ في طريق الشام من مكة. وسرو على لفظ الشجر بمعنى أعلى. فسرو سحيم: أعلاه. وقوله: بسرو سحيم تأكيد للأول. وقوله: عارفٌ خبر مبتدأ محذوف، أي: هو ذو معرفة بالأمور. ومناكر اسم فاعل، من ناكره بمعنى قاتله. والياسر: اللاعب بالميسر، وهو قمار العرب بالأزلام، وهو مما يفتخر به عندهم، كانوا يقامرون بها في أيام الغلاء والقحط، ويفرق الغالب لحم الجزور على الفقراء. وقوله: تنادوا، أي: تنادى جماعة الركب. وأن مخففة من الثقيلة، وجملة: لا سيد الحي فيهم من المبتدأ، والخبر خبر أن المخففة. وفجع بمعنى أصيب بالرزية. والقافل: الراجع من السفر. وعنى بأهل الله قريشاً. وكانت العرب تسميهم أهل الله، لكونهم أرباب مكة. والحبير، بفتح الحاء المهملة، وكسر الموحدة: ثيابٌ ناعمة كانت تصنع باليمن. وريدة بفتح الراء المهملة وسكون المثناة التحتية: بلدةٌ من بلاد اليمن، وأراد أهل ريدة. ومعافر بفتح الميم بعدها عين مهملة، وكسر الفاء: قبيلةٌ من قبائل اليمن. ومعجعجة: اسم فاعل من جعجعت الإبل، إذا صوتت، وإنما تصوت لذبح أولادها، وكان في الأصل صفة لكوم، وقد قدم عليه صار حالاً منه. والكوم: جمع كوماء، وهي الناقة العظيمة السنام. والباقر: اسم جمعٍ بمعنى البقر. وقوله: إذا أكلت، أي: إذا أكلها الأضياف. يريد أنه يدني من موضعه الذي ينزله قطعةً من الإبل للنحر والقرى، فكلما فنيت قطعةٌ أحضر قطعة أخرى. والزواهق: جمع زاهقة، وهي السمينة المفرطة السمن. والزهم: جمع زهمة بفتح فكسر، وهي الكثيرة الشحم. والمخاض: الحوامل من الإبل، واحدها خلفة من غير لفظها. والبهازر: جمع بهزرة، بتقديم المعجمة، على وزن حيدرة، وهي الناقة الجسيمة. وقوله: ضروبٌ بنصل السيف، أي: هو ضروبٌ. ونصل السيف: شفرته، فلذلك أضافه إلى السيف. وقد يسمى السيف كله نصلاً. مدحه بأنه كان يعرقب الإبل للضيفان عند عدم الأزواد. وكانوا إذا أردوا نحر الناقة ضربوا ساقها بالسيف فخرت، ثم نحروها. وقوله: إذا عدموا زاداً إلخ، الجملة الشرطية التفاتٌ إلى الخطاب من الغيبة. والسوق: جمع ساق. وقوله: وإلا يكن لحمٌ غريض، بفتح الغين المعجمة وكسر الراء وآخره ضاد معجمة، هو الطري من اللحم. وتكب: تصب. والغرائر: الأعدال، جمع غرارة بالكسر، وهي وعاءٌ يجعل فيه الدقيق وغير ذلك. وقوله: فيا لك من ناع مجرور من: تمييزٌ للكاف. والناعي: المخبر بموت إنسانٍ دعا عليه، لكونه أخبر بموت المرثي. وحبيت: خصصت. والألة بفتح الهمزة وتشديد اللام: الحربة. والشراعية: بكسر الشين المعجمة: الطويلة، وقيل التي قد أشرعت للطعن، أي: مدت نحوه. وصفرة الأظفار كنايةٌ عن الموت، فإن الميت تصفر أظافره. وترجمة أبي طالب تقدمت في الشاهد الواحد والتسعين. وأنشد بعده: وهو من شواهد سيبويه: البسيط شمٍّ مهاوين أبدان الجزور مخ *** ميص العشيات لا خورٍ ولا قزم على أن مهاوين جمع مهوان من أهان، وبناء مفعال من أفعل قليلٌ نادر، والكثير من فعل. وقد أورده الزمخشري في المفصل على أن ما جمع من اسم الفاعل يعمل عمل المفرد. والأوصاف جميعها مجرورة في البيت: لأن قبله: يأوي إلى مجلسٍ بادٍ مكارمهم *** لا مطعمي ظالمٍ فيهم ولا ظلم والبيت إنما ورد في كتاب سيبويه والمفصل وغيرهما على إعمال مفعال عمل فعله، وليس فيهما ما يدل على أن الأوصاف مرفوعة ومجرورة. ولا وجه لقول ابن خلف: البيت في الكتاب رويه مرفوع، وهو مخفوضٌ كما يدل عليه ما قبله. وكذا قول ابن المستوفي: قد أنشده سيبويه في كتابه كما أنشده الزمخشري بالرفع، وهو مجرور. انتهى. ولم يقف ابن الحاجب في أماليه على المفصل على البيت الأول فظنه مرفوعاً، وقال: شم خبر مبتدأ محذوف، وما بعده أخبار وأوصاف. وكذلك قول العيني. وقوله: يأوي إلى مجلس إلخ، فاعل يأوي ضمير مستتر. يقال: أوى إلى منزله يأوي، من باب ضرب، أوياً على وزن فعول، إذا أقام فيه. والمجلس: موضع الجلوس، وقد أطلق هنا على أهله، تسميةً للحال باسم المحل، يقال: انفض المجلس، بدليل الأوصاف الآتية، ولهذا عاد الضمير إليه من مكارمهم بجمع العقلاء، كما يطلق المقامة بالفتح على محل القيام، وعلى الجماعة من الناس. وبادٍ: اسم فاعل من بدا يبدو بدواً، إذا ظهر. والمكارم: جمع مكرمة بفتح الميم وضم الراء، قال صاحب المصباح: المكرمة، بضم الراء: اسمٌ من الكرم، وفعل الخير مكرمة، أي: سببٌ للكرم والتكريم. وباد صفة سببية لمجلس. وقوله: لا مطمعي ظالم صفة ثانية لمجلس، وأصله مطمعين، حذفت نونه للإضافة. وقوله: ولا ظلم بضمتين: جمع ظلوم صفة ثالثة لمجلس. يريد أن الناس قد عرفوا أنه من ظلمهم انتصفوا منه، فليس أحدٌ يطمع في ظلمهم، ولا هم يظلمون أحداً. وقوله: شمٍّ صفة رابعة لمجلس، وهو جمع أشم، وصفٌ من الشمم، وهو ارتفاع في قصبة الأنف مع استواء أعلاه، فإن كان فيها احديدابٌ فهو القنى، يقال: أقنى الأنف. جعل الشمم كنايةً عن العزة والأنفة. يقال للعزيز شامخ الأنف، وللذليل خاشع الأنف. وقال ابن الحاجب: وصفهم بالارتفاع إما في النسب والكرم، والقدر، والعزة، وهو مأخوذ من الشمم المذكور. وهذا كلامه، ولا حاجة إليه. وقوله: مهاوين صفة خامسة لمجلس، وهو مجرور بالفتحة لأنه على صيغة منتهى الجموع، وهو جمع مهوان، وهو مبالغة مهين، من أهانه، أي: أذله. قال الأعلم: الشاهد فيه نصب أبدان الجزور بقوله: مهاوين، لأنه جمع مهوان، ومهوان تكثير مهين، كما كان منحار ومضراب تكثير ناحر وضارب، فعمل الجمع على واحده. يريد أنهم يهينون للأضياف والمساكين أبدان الجزور، وهو جمع بدنة، وهي الناقة المتخذة للنحر المسمنة. وكذلك الجزور. هذا كلامه. وتبعه ابن يعيش، وقال: الأبدان جمع بدانة، وهي الناقة المتخذة للنحر. يريد أنهم يسمنون الإبل فينحرونها للأضياف. وعليه يقتضي أن يكون من إضافة أحد المترادفين إلى الآخر، مع أنه لم يسمع جمع بدنة على أبدان، وإنما ورد جمعها على بدنات وبدن بضمتين وإسكان الدال تخفيفاً. والصواب أنه جمع بدن، وهو من الجسد ما سوى الرأس واليدين والرجلين. وإنما آثر ذكره على غير لإفادة زيادة وصفهم بالكرم، فإنهم إذا فرقوا أفضل لحم الجزور، فتفريق ما سواه يكون بالطريق الأولى، والإضافة حينئذٍ من إضافة البعض إلى الكل. والبدنة: ناقة وبقرةٌ، زاد الأزهري: وبعير. قالوا: ولا تقع على الشاة. والجزور، بفتح الجيم من الإبل خاصة، يقع على الذكر والأنثى، والجمع جزر بضمتين، وتجمع أيضاً على جزرات، ثم على جزائر. ولفظ الجزور أنثى، فيقال: رعت الجزور. قاله ابن الأنباري. وزاد الصغاني: وقيل الجزور الناقة التي تنحر، وجزرت الجزور وغيرها من باب قتل، إذا نحرتها. كذا في المصباح. واللام في الجزور لاستغراق الأفراد. وقال ابن خلف: أراد أن يقول الجزر فاكتفى بالواحد عن الجمع. وروى: مهاوية أبداء الجزور، وهو جمع بدء بفتح الموحدة وسكون الدال بعدها همزة، قيل هو بمعنى النصيب، وقيل بمعنى المفصل. وقال الأعلم: أبداء الجزور أفضل أعضائها، واحدها بدء، ومنه السيد بدءٌ لفضله. وقوله: مخاميص العشيات صفة سادسة لمجلس، وهو مجرور بالكسرة لأنه مضاف، وهو جمع مخماص مبالغة حميص، من خمص الشخص خمصاً فهو حميص، إذا جاع، مثل قرب قرباً، فهو قريب. والمخمصة: المجاعة. وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل: هو جمع مخموص، من حمصه الجوع حمصاً، أي: جعله ضامر البطن. والعشيات: جمع عشي، والعشي والعشاء بالكسر: من صلاة المغرب إلى العتمة. والعشي قيل بمعنى العشية، وقيل جمعها. ومخاميص العشيات، كقولهم: نهاره صائم. وقال ابن الحاجب: هذه الإضافة اتساع، والأصل: في العشيات. قال الأعلم: يريد، أنهم يؤخرون العشاء لأجل ضيفٍ يطرق، فبطونهم حميصة في عشياتهم، لتأخر الطعام عنهم. وليس المعنى على قول ابن خلف: المخاميص: الذين ليسوا بعظام البطون. يعني أنهم لا يأكلون، حتى تعظم بطونهم، وإنما يكتفون بأخذ ما يحتاجون إليه من الطعام، ليس فيهم نهمٌ. هذا كلامه، وفيه أنه يبقي العشيات لغواً. وقوله: لا خور بالجر، صفة سابعة لمجلس، والخور: الضعفاء عند الشدة. قال صاحب الصحاح: الخور بفتحتين: الضعف، رجلٌ خوار ورمح خوار، وأرض خوارة، والجمع خور بتخفيف الواو. وقال العيني: هو جمع أخور، وهو الضعيف. وقوله هو القياس. وقوله: ولا قزم بالجر صفة ثامنة لمجلس، وهو بفتح القاف والزاي. قال صاحب الصحاح: القزم بالتحريك: الدناءة والقماءة. والقزم: رذال الناس وسفلتهم، يقال: رجل قزم، والذكر والأنثى والواحد والجمع فيه سواءٌ، لأنه في الأصل مصدر. والشعر نسبه سيبويه إلى الكميت بن زيد الأسدي، وتقدمت ترجمته في الشاهد السادس عشر. وقال ابن المستوفي كابن خلف: رواه سيبويه للكميت. ولم أره في ديوانه. وأنشده ابن السيرافي لتميم بن أبي بن مقبل، ولم أره فيما كتبه من شعره. والله أعلم. وترجمة تميم بن أبي بن مقبل تقدمت أيضاً في الشاهد الثاني والثلاثين. وكلاهما شاعر إسلامي. وأنشد بعده: وهو من شواهد سيبويه: البسيط حتى شآها كليلٌ موهناً عملٌ *** باتت طراباً وبات الليل لم ينم على أن سيبويه، قال: إذا حول فاعل إلى فعيل وفعل عمل أيضاً. وأنشد هذا البيت، فإن كليلاً قد عمل في قوله: موهناً. ورد بأن موهناً ظرف لشآها، ولو كان لكليل أيضاً فلا استدلال فيه، لأنه ظرف يكفيه رائحة الفعل. واعتذر لسيبويه بأن كليلاً بمعنى مكل فموهناً مفعوله على المجاز، كما يقال: أتعبت يومك، ففعيل مبالغة مفعل لا فاعل. وفيه أنه قليل نادر ولا يصح الاستدلال بالمحتمل مع أن الاعتذار بعيد. هذا كلامه. قال التبريزي في شرح الكافية: أنشد سيبويه هذا البيت على إعمال فعيل، فإن كليلاً بمعنى مكل، وموهناً منصوب على أنه مفعول به، أي: يكل أوقات الليل من كثرة العمل. وطعنوا في هذا البيت من جهة استشهاده. وقيل: كليل بمعنى كال، من كل يكل فإنه لازم، وموهناً منصوب على الظرف. وهذا التأويل ليس بقوي، لأن صدر البيت وعجزه ينافيه، فإنه قال: وبات الليل لم ينم فلا يمكن أن يوصف بأنه قال في بعض أوقات الليل، وقال عمل، وهو يدل على كثرة العمل. وقال ابن مالك: إنما أنشد سيبوبه هذا البيت ليعلم جواز العدول من فاعل إلى فعيل، لأن أصله كال. ولم يتعرض للإعمال. وهذا أيضاً ضعيفٌ، بما نقل السيرافي أنه قال سيبويه: كليل في معنى مكل، مثل أليم، وداءٌ وجيع، بمعنى مؤلم وموجع. انتهى. وقال ابن هشام في المغني: رد على سيبويه في استدلاله على إعمال فعيل بهذا البيت. وذلك أن موهناً ظرف زمان، والظرف يعمل فيه روائح الفعل، بخلاف المفعول به. ويوضح كون الموهن ليس مفعولاً به أن كليلاً من كل، وفعله لا يتعدى. واعتذر عن سيبويه بأن كليلاً بمعنى مكل، وكأن البرق يكل الوقت بدوامه فيه، كما يقال: أتعبت يومك. وبأنه إنما استشهد به على أن فاعلاً يعدل عنه إلى فعيل للمبالغة، ولم يستدل به على الإعمال. وهذا أقرب، فإن في الأول حمل الكلام على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة. ونحن ننقل لك كلام سيبويه هنا ليظهر لك حقيقة الحال، قال في باب ما جرى في الاستفهام من أسماء الفاعلين، من أوائل الكتاب: وأجروا اسم الفاعل إذا أرادوا أن يبالغوا في الأمر مجراه، إذا كان على بناء فاعل، لأنه لا يريد به ما أريد بفاعل من إيقاع الفعل، إلا أنه يريد أن يحدث عن المبالغة. فمما هو الأصل الذي عليه أكثر هذا المعنى: فعول، وفعال، ومفعال، وفعل. وقد جاء فعيل كرحيم، وقدير، وسميع، وبصير، يجوز فيهن ما جاز في فاعل من التقديم والتأخير، والإضمار والإظهار. لو قلت: هذا ضروب رؤوس الرجال وسوق الإبل، على: ضروب سوق الإبل جاز، كما تقول: ضارب زيدٍ وعمراً تضمر: وضاربٌ عمراً. ومما جاء مقدماً ومؤخراً على نحو ما جاء في فاعل قول ذي الرمة: الطويل هجومٌ عليها نفسه غير أنه *** متى يرم في عينيه بالشبح ينهض وقال الفلاخ: الطويل أخا الحرب لباساً إليها جلالها وقال أبو طالب: الطويل ضروبٌ بنصل السيف سوق سمانها وقد جاء في فعلٍ وليس في كثرة ذلك، قال: الكامل ومسحلٌ شنج عضادة سمحج ومما جاء في فعلٍ قوله: الكامل حذرٌ أموراً لا تخاف وآمنٌ ومن هذا الباب قول رؤبة: الرجز برأس دماغٍ رؤوس العز ومنه قول ساعدة: حتى شأها كليلٌ موهناً عمل ***.........البيت وقال الكميت: شمٍّ مهاوين أبدان الجزور ***...........البيت ومنه: قدير، وعليم، ورحيم، لأنه يريد المبالغة وليس بمنزلة قولك حسنٌ وجه الأخ، لأن هذا لا يقلب ولا يضمر، وإنما حده أن يتكلم به في الألف واللام ولا تعني أنك أوقعت فعلاً سلف منك إلى أحد. ولا يحسن أن تفصل بينهما، فتقول: هو كريمٌ فيها حسب الأب. هذا نصه بحروفه، مع حذف بعض أمثلة. قال الأعلم: الشاهد في نصب الموهن بكليل، لأنه مغير عن بنائه للتكثير. وقد رد هذا التأويل على سيبويه لما قدمنا: أن فعيلاً وفعلاً بناءان لما لا يتعدى في الأصل. وجعل الراد نصب موهن على الظرف، والمعنى عنده أن البرق ضعيف الهبوب كليلٌ في نفسه. وهذا الرد غير صحيح، إذ لو كان كليلاً، كما قال: لم يقل عملٌ وهو الكثير العمل، ولا صفة بقوله: وبات الليل لم ينم. والمعنى على مذهب سيبويه أنه وصف حماراً وأتناً نظرت إلى برق مستمطر دال على الغيث يكل الموهن بدؤوبه وتوالي لمعانه، كما يقال أتعبت ليلك، أي: سرت فيه سيراً حثيثاً متعباً متوالياً. والموهن: وقتٌ من الليل. فشآها البرق، أي: ساقها وأزعجها إلى مهبه، فباتت طربةً إليه، منتقلة نحوه. وفعيل في معنى مفعل موجودٌ كثير. يقال: بصير في معنى مبصر. وعذاب أليم بمعنى مؤلم، وسميع بمعنى مسمع. وكذلك كليل في معنى مكل. وإذا كان بمعناه عمل عمله، لأنه مغير منه للتكثير كما تقدم. وقال ابن خلف أيضاً: الشاهد نصب موهناً بكليل نصب المفعول به، لأنه بمعنى مكل فيعمل عمله. وقال المبرد: موهناً ظرف وليس بمفعول. ولا حجة له فيه. وجعل كليلاً من كل يكل، وكل لا يتعدى إلى مفعول به، فكيف يتعدى كليل. قال أبو جعفر: لا يجوز عند الجرمي والمازني والمبرد أن يعملوا فعيلاً. قال: وما علمت إلا أن النحويين مجمعون على ذلك. ولا يجيزون هو رحيمٌ زيداً، ولا عليم الفقه. والعلة فيه أن فعيلاً في الأصل من فعل فهو فعيل، وهذا لا ينصب بإجماعهم، وهو معهم على ذلك. وفعيل هذا بمنزلة ذلك، لأنه إنما يخبر به عما في الهيئة، فهو ملحق به لا يعمل كما لا يعمل. وفعل عند المبرد بمنزلته. واحتج بقولهم: رجل طبٌّ وطبيب. قال أبو إسحاق في الحجة في إعمالٍ فعيل: إن الأصل كان أن لا يعمل إلا ما جرى على الفعل، فلما أعربوا ضروباً لأنه بمعنى ضارب وجب أن يكون فعيل مثله. قال: ومنه قدير. وسيبويه أورد هذا على أنه للمبالغة في كال، وكال يتعدى إلى مفعول على تقديره. وكأن الذي عند سيبويه أن كللت يتعدى، ويكون معناه أن كلل الموهن، أي: جعل يبرق فيه برقاً ضعيفاً. وزعم أن كليلاً بمعنى مكل. وليس هذا من مذهب سيبويه في شيء، لأن سيبويه غرضه ذكر فعيل الذي هو مبالغة فاعل، وما عرض لفعلٍ الذي بمعنى مفعل. وقد روى أبو الحسن اللحياني في نوادره أن بعض العرب يقول في صفة الله عز وجل: هو سميع قولك وقول غيرك، بتنويع سميع ونصب قولك. وهذا يشهد لصحة مذهب سيبويه. وقال أبو نصر هارون بن موسى: زعم الرادّ على سيبويه أن موهناً ظرف. وهو على ما ذكرنا من فساد المعنى. والكليل ها هنا: البرق والموهن: وقت من الليل، ولو كان ظرفاً لوصف البرق بالضعف في لمعانه، وإذا كان بهذه الصفة فكيف يسوقها وهو لا يدل على المطر؟ ولكن البرق إذا تكرر في لمعانه، واشتد، ودام دل على المطر، وشاق، وأتعب الموهن في ظلمته، لأنه كلما هب ذهبت الظلمة، ثم يرجع إذا فتر البرق، ثم يذهب، إذا لمع. فلذلك عدى الشاعر الكليل إلى الموهن. وقوله: شآها، أي: شأى الإبل، أي: ساقها. قال الأخفش: تبعها. يقال: شاءني الأمر وشآني، أي: ساقني. ويقال أيضاً شآني: حزنني. وكليل أي: برق ضعيف. وإنما ضعفه لأنه ظهر من بعيد. والموهن بفتح الميم وكسر الهاء: قطعة من الليل. والعمل: الدائب المجتهد في أمره الذي لا يفتر. وباتت طراباً يعني البقر الوحشية طراباً إلى السير إلى الموضع الذي فيه البرق، وبات البرق الليل أجمع لا يفتر. فعبر عن البرق بأنه لم ينم لاتصاله من أول الليل إلى آخره. انتهى ما أورده ابن خلف. وقال النحاس: شآها يعني الإبل. وكليل: برق خفي. طراباً: طربت للبرق وشاقها. وبات البرق لم ينم لشدة دوامه. قال ابن حبيب: طراباً من الطرب تحن إلى أولادها. قال الجمحي: تنزع إلى أوطانها. والصحيح أنه عنى بها البقر، لا الإبل، خلافاً للشارح المحقق وغيره. قال السكري في شرح أشعار الهذليين: حتى شآها، يعني شأى البقر، يقال: شؤته، فكان ينبغي أن يقول شاءها، فقلب فقدم الهمزة. ومعنى شؤته شقته وهيجته وسررته. يقول: حتى شاء البقر كليلٌ، وهو البرق الضعيف، موهناً: بعد هدء من الليل. عملٌ، أي: ذو عمل، لا يفتر البرق. وباتت طراباً، يعني البقر. وبات الليل، يعني البرق. وعمل: دائب، يقال للرجل إذا دأب: قد عمل يعمل. انتهى. والبيت من قصيدة طويلة لساعدة بن جؤية، رثى بها من أصيب يوم معيط، وهو أرض، منهم سراقة بن جعشم من بني مدلج، كان يرسل إليهم الأخبار. وهذا مطلعها: البسيط يا ليت شعري ولا منجى من الهرم *** أم هل على العيش بعد الشيب من ندم قال السكري: ويروى: يا للرجال ألا منجى من الهرم يقول: هل يندم أحدٌ على أن لا يعيش بعد أن يشيب. وقوله: على العيش. أي: على فوت العيش. ومثله: المال يزري بأقوام يريد فقد المال. وهذا البيت أورده ابن هشام في المغني على أن زيادة أم فيه ظاهرة. إلى أن قال: تالله يبقى على الأيام ذو حيدٍ *** أدفى صلودٌ من الأوعال ذو خدم يريد: تالله لا يبقى، فحذف لا النافية في جواب القسم. وروى لله يبقى واللام للقسم والتعجب معاً. ولأجله استشهد ابن هشام في المغني بهذا المصراع. وذو حيدٍ: هو الوعل. والحيد بكسر ففتح: جمع حيد، بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية، وهي العقد في قرن الوعل. والأدفى بالقصر: الذي يميل قرنه إلى نحو ذنبه. وصلود: صفة أدفى. والصلود: الذي يقرع بظلفه الجبل. والخدم بفتح الخاء المعجمة والدال: جمع خدمة، وهي الخلخال، ويجمع على خدام أيضاً بالكسر. والخدم: خطوطٌ بيضٌ في قوائمه تشبه الخلاخيل. ثم وصف تحصنه في رؤوس الجبال في ثمانية أبيات، فلما جاءه أجله لم يسلم من الصياد، فهلك على يديه، وقال: فكان حتفاً بمقدارٍ وأدركه *** طول النهار وليلٌ غير منصرم أراد: أدركه طول النهار وليلٌ غير منقطع. يقول: لم يفلت من طول الأيام والليالي. وبعده: ولا صوارٌ مذراةٌ مناسجه *** مثل الفريد الذي يجري من النظم هذا معطوف على ذو حيد في جواب القسم السابق. أي: تالله لا يبقى على الأيام ذو حيد ولا صوارٌ، وهو بكسر الصاد المعجمة: جماعة البقر. يقال: نعجة مذراة، وكبش مذرى بالذال المعجمة، إذا جز وترك بين كتفيه صوف لم يجز. فهي الذروة بكسر الذال وضمها. والنظم بضمتين: جمع نظام، وهو الخيط الذي فيه اللؤلؤ. يقول: الصوار مثل اللؤلؤ في الحسن والبياض. ظلت صوافن بالأرزان صاويةً *** في ماحقٍ من نهار الصيف محتدم أي: قد رفعن إحدى قوائمهن. والصوافن: التي تفرج بين رجليها. والأرزان: جمع رزن، بكسر الراء المهملة وسكون الزاي، وهو الموضع الغليظ الذي فيه الماء. وصاوية بالصاد المهملة: اليابسة من العطش. والماحق: شدة الحر. والمحتدم: المحترق، بالحاء والدال المهملتين. أي: كان ذلك اليوم محترقاً من شدة الحر. قد أوبيت كل ماء فهي صاويةٌ *** مهما تصب أفقاً من بارق تشم حتى شآها كليلٌ موهناً عملٌ *** باتت طراباً وبات الليل لم ينم كأنما يتجلى عن غواربه *** بعد الرقاد تمشي النار في الضرم حيران يركب أعلاه أسافله *** يخفي تراب جديد الأرض منهزم فأسأدت دلجاً تحيي لموقعه *** لم تنشب بوعوث الأرض والظلم حتى إذا ما تجلى ليلها فزعت *** من فارسٍ وحليف الغرب ملتئم فافتنها في فضاء الأرض يأفره *** وأصحرت في قفافٍ ذات معتصم أنحى عليها شراعياً فغادره *** لدى المزاحف تلى في نضوح دم وبعد هذا شرع في الرثاء. قوله: قد أوبيت كل ماء البيت إلخ، أورده أبو حنيفة في كتاب النبات مع أبيات أربعة بعده. وقال: وصف بها ساعدة بن جؤية حميراً. وقال: أوبيت: منعت. وقال السكري: يقول: منعت كل ماء، أي: قطع عنها، يقال: طعام وشراب لا يؤبى: لا ينقطع. وقال شارح اللباب: أي: جعلت تأبى كل ماء وتكرهه. وصاوية بالصاد المهملة. قال أبو حنيفة: الصاوي: اليابس، أي: يبست من العطش. وقوله: مهما تصب أفقاً قال السكري، أي: ناحية من بارق، أي: من سحاب فيه برق. وتشم: تنظر إليه، والضمير في الجميع ضمير الصوار. وهذا البيت أورده ابن هشام في المغني على أن يسعون استدل به على مجيء مهما حرف شرط كإن. قال: واستدل ابن يسعون تبعاً للسهيلي، على أن مهما تأتي حرفاً، بقوله: قد أوبيت كل ماءٍ، البيت. قال: إذ لا تكون مبتدأ لعدم الربط من الخبر، وهو فعل الشرط، ولا مفعولاً لاستيفاء فعل الشرط مفعوله، ولا سبيل إلى غيرهما، فتعين أنها لا موضع لها. والجواب أنها مفعول تصب، وأفقاً ظرف، ومن بارق تفسير لمهم ومتعلق بتصب، فمعناها التبعيض. والمعنى: أي شيءٍ تصب في أفق من البوارق تشم. وقال بعضهم: مهما ظرف زمان، والمعنى أي وقت تصب بارقاً من أفق. فقلب الكلام. وفي أفق بارقاً فزاد من واستعمل أفقاً ظرفاً. ثم ذكر أنها لا تأتي ظرفاً، خلافاً لابن مالك. وإلى الظرفية ذهب صاحب اللباب. قال: وقد تستعمل مهما للظرف، نحو: مهما تصب أفقاً من بارقٍ تشم قال شارحه: أي: مهما تصب بارقاً في جهة في أفق وناحيةٍ من الجهات تشم الناقة ذلك البارق. من شمت البرق، أي: نظرت إلى سحابه أين يمطر. والبارق: السحاب ذو البرق. ومهما في البيت ظرف، لأن الفعل بعده تسلط على مفعوله، فلا يتسلط عليه تسلط المفعول به، لأنه لا يتعدى إلا إلى واحد، فهو ظرف، أي: في أي جهة تصب. وقال أبو حيان في تذكرته: قال الفارسي: هذا على القلب، والمعنى: مهما تصب بارقاً من أفق. فإن جعلت أفقاً ظرفاً كانت من زائدة لأنها غير واجبة، فهي مثل إن تصب عندي من درهم. فلا قلب. وأجاز أن تكون من غير زائدة، ومن بارق في موضع نصب بتشم، ومفعول تصب محذوف، وهو ضمير منصوب يعود على أفق وعلى بارق. قلت: الذي ذكره الفارسي من إعمال الفعلين، والمعمول متوسط غريب، قلما يذكره النحويون. وقد ذكرنا في باب كونه تقدم على الفعلين، نحو: أي رجل ضربت، وشتمت ويجب أن يكون الأول أولى بالعمل بلا خلاف، كما كان ذلك في قولك: أي رجل ضربت وشتمت، لأنه في هذه المسألة أقرب. وفي مسألة أبي علي وإن لم يكن أقرب الفعلين فليس بأبعد الفعلين، لأن النسبة في التلاصق واحدة، إلا أن عمل الفعل مقدماً أولى من عمله مؤخراً بلا خلاف. وابن يسعون: يجوز أن يقدر إنارة أفق، فلا قلب. ويحتمل أن يكون مهما مفعولاً بتصب، أي: أي شيء تجد في أفق من البرق تشم. وفي رواية الجمحي: مهما يصب بارقٌ آفاقها تشم وهذا سهل الإعراب، ومهما ظرف العامل فيه يصب، ولا يحتاج فيه إلى ضمير. والظرف في مهما قليل، ويتصور أن يكون بمعنى إن على ما ذكروا، إلا أن هذا أولى. انتهى ما أورده أبو حيان. وقوله: حتى شآها إلخ، ضمير المؤنث للصوار، وهي البقر، لا للحمير الوحشية، خلافاً لأبي حنيفة، ولا للإبل خلافاً للشارح وغيره، ولا الناقة خلافاً لشارح الباب. قال أبو حنيفة: شآها: شاقها بالشين المعجمة. قال: قدم همزة شاء، يقال: شاءني يشوؤني ويشيئني أيضاً، أي: شاقني. قال الشاعر: الكامل مر الحمول فما شأونك نقرةً *** ولقد أراك تشاء بالأظعان أي: تشاق، فجاء باللغتين. والكليل: البرق الضعيف، وقد يستحب أن يكون قليلاً. والعمل: الدائب لا يفتر. والطرب: التي قد استخفها الفرح. والموهن: بعد ساعةٍ من نصف الليل، وضمير بات للبرق الكليل. وقوله: كأنما يتجلى إلخ، أي: البرق الكليل. والغوارب: أعالي السحاب. والضرم: ما دق من الحطب، فالنار تسرع فيه. وقوله: حيران يركب أعلاه إلخ، قال السكري: يعني هذا السحاب لا يمضي على جهته قد حار، فهو يتردد. وقوله: يخفي تراب الأرض، أي: يظهره، من خفاه: أظهره، يعني المطر يظهر التراب. وجديد الأرض، بالجيم: أرضٌ صلبة لم تحفر. وقوله: منهزم يقول: هذا السحاب قد انخرق بالماء، يقال: انشق سحاب الماء. هذا مثلٌ. ويقال للدابة: انشق سقاؤه بالعدو. وقال أبو حنيفة: قوله: حيران، أي: لا جهة له، فهو ماكث. وخفاه: أظهره. يعني: أن سيله يشق الأرض، فيظهر باطنها. ومنهزم: منشق بالماء. وقوله: فأسأدت دلجاً إلخ، قال أبو حنيفة: الإسآد: سير الليل كله. وكذلك الدلج. وتحيي لموقعه يريد: تحيي الليل لموقع هذا الغيث، تسير إليه. لم تنتشب: لم تتحبس، أي: لم يعقها وعوث الأرض. وقال السكري: قوله تحيي لموقعه، يعني هذه البقرة تحيي ليلتها جمعاء لموقع ذلك السحاب لتبلغه. والوعث: اللين: وهو يحبس. وقوله: حتى إذا ما تجلى ليلها إلخ، قال السكري: يعني بحليف الغرب رمحاً حديد السنان. وغرب كل شيءٍ: حده. وملتئم: يشبه بعضه بعضاً لا يكون كعبٌ منه رقيقاً والآخر غليظاً. وقيل: يعني بحليف الغرب فرسه، والغرب: النشاط. وقوله: فافتنها يريد انشق بها في ناحية، من فنن، بالفاء والمثناة فوق والنون. وقيل افتتنها. طرحها. ويأفرها: يسوقها من الأفر بالفاء والراء المهملة، وهو عدوٌ فيه قفز. وقوله: وأصحرت، أي: صارت في صحار، وقوله: في قفاف القف بالضم: ما غلظ من الأرض وارتفع ولم يبلغ أن يكون جبلاً. والمعتصم بفتح الصاد: الملجأ. وقوله: أنحى عليها إلخ، أي: أهوى إليها الفارس بالرمح. والشراعي بضم الشين المعجمة: الرمح الطويل. وغادرها: تركها وخلفها. وتلى: صرعى. ولدى المزاحف: جمع مزحف، أي: حيث زاحفها فيه، أي: قاتلها. والنضج: بمعجمتين ما أصاب الشيء على غير عمد، يقال: أصابه نضجٌ من الدم والزعفران والبول ما لم تتعمد به، فإذا أنت تعمدته، قلت: نضجته بالماء. بالحاء المهملة. يقال: نضج ينضج إذا ما رشح. وترجمة ساعدة بن جؤية الهذلي قد تقدمت في الشاهد التاسع والستين بعد المائة. وأنشد بعده:
|